الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{الم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} جاء هذا القرآن الكريم ليخاطب الفطرة البشرية بمنطقها. نزله الذي خلق هذه الفطرة، والذي يعلم ما يصلح لها وما يصلحها، ويعلم كيف يخاطبها، ويعرف مداخلها ومساربها. جاء يعرض على هذه الفطرة الحقيقة المكنونة فيها من قبل؛ والتي تعرفها قبل أن تخاطب بهذا القرآن، لأنها قائمة عليها أصلاً في تكوينها الأول.. تلك هي حقيقة الاعتراف بوجود الخالق وتوحيده، والتوجه إليه وحده بالإنابة والعبادة مع موكب الوجود كله المتجه إلى خالقه بالحمد والتسبيح.. إنما تغشى على الفطرة غواش من دخان هذه الأرض؛ وتغمرها غمرات من فورة اللحم والدم؛ وتنحرف بها عن الطريق دفعات من الهوى والشهوة. هنا يجيء هذا القرآن ليخاطب الفطرة بمنطقها الذي تعرفه؛ ويعرض عليها الحقيقة التي غفلت عنها بالأسلوب الذي تألفه؛ ويقيم على أساس هذه الحقيقة منهاج الحياة كله، مستقيماً مع العقيدة، مستقيماً مع الفطرة، مستقيماً على الطريق إلى الخالق الواحد المدبر الخبير.. وهذه السورة المكية نموذج من نماذج الطريقة القرآنية في مخاطبة القلب البشري. وهي تعالج قضية العقيدة في نفوس المشركين الذين انحرفوا عن تلك الحقيقة. إنها القضية التي تعالجها السور المكية في أساليب شتى، ومن زوايا منوعة، تتناول القلب البشري من جميع أقطاره؛ وتلمس جوانبه بشتى المؤثرات التي تخاطب الفطرة وتوقظها.. هذه القضية الواحدة قضية العقيدة تتلخص هنا في توحيد الخالق وعبادته وحده وشكر آلائه. وفي اليقين بالآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل. وفي اتباع ما أنزل الله والتخلي عما عداه من مألوفات ومعتقدات. والسورة تتولى عرض هذه القضية بطريقة تستدعي التدبر لإدراك الأسلوب القرآني العجيب في مخاطبة الفطر والقلوب. وكل داع إلى الله في حاجة إلى تدبر هذا الأسلوب. إنها تعرض هذه القضية في مجال العرض القرآني. وهو هذا الكون الكبير. سماؤه وأرضه. شمسه وقمره. نهاره وليله. أجواؤه وبحاره. أمواجه وأمطاره. نباته وأشجاره... وهذا المجال الكوني يتكرر في القرآن الكريم. فيحيل الكون كله مؤثرات ناطقة، وآيات مبثوثة عن الأيمان والشمائل، تخاطب القلوب البشرية وتؤثر فيها وتستحييها، وتأخذ عليها المسالك والدروب. ومع أن القضية واحدة ومجال العرض واحد، فإنها تعرض في السورة أربع مرات في أربع جولات، تطوف كل منها بالقلب البشري في ذلك المجال الفسيح، مستصحبة في كل مرة مؤثرات جديدة، ومتبعة أسلوباً كذلك جديداً في العرض والتناول. وتتبع هذه الجولات وهي تبدأ وتنتهي بطريقة عجيبة فيه متاع للقلب والعقل. إلى جانب ما فيه من دواعي التأثر والاستجابة. تبدأ الجولة الأولى بعد افتتاح السورة بالأحرف المقطعة؛ فتقرر أن هذه السورة من جنس تلك الأحرف، هي آيات الكتاب الحكيم، وهي هدى ورحمة للمحسنين. وهؤلاء المحسنون هم: {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون} فتقرر قضية اليقين بالآخرة وقضية العبادة لله. ومعها مؤثر نفسي ملحوظ هو أن {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} ومن ذا الذي لا يريد أن يكون من المفلحين؟. وفي الجانب الآخر فريق من الناس يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم، ويتخذ تلك الآيات هزواً. وهؤلاء يعاجلهم بمؤثر نفسي مخيف مناسب لاستهزائهم بآيات الله: {أولئك لهم عذاب مهين}.. ثم يمضي في وصف حركات هذا الفريق: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها}.. ومع الوصف مؤثر نفسي يحقر هذا الفريق: {كأن في أذنيه وقراً} ومؤثر آخر يخيفه مع التهكم الواضح في التعبير: {فبشره بعذاب أليم} والبشارة هنا فيها ما فيها من التهكم الملحوظ!.. ثم يعود إلى المؤمنين يفصل شيئاً من فلاحهم الذي أجمله في أول السورة؛ ويبين جزاءهم في الآخرة، كما كشف عن جزاء المستهزئين المستكبرين: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقاً، وهو العزيز الحكيم}.. وهنا يعرض صفحة الكون الكبير مجالاً للبرهان الذي يطالع الفطرة من كل جانب، ويخاطبها بكل لسان، ويواجهها بالحق الهائل الذي يمر عليه الناس غافلين: {خلق السماوات بغير عمد ترونها، وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم، وبث فيها من كل دابة، وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم}.. وأمام هذه الأدلة الكونية التي تهول الحس وتبده الشعور يأخذ بتلابيب القلوب الشاردة، التي تجعل لله شركاء وهي ترى خلقه الهائل العظيم: {هذا خلق الله. فأروني ماذا خلق الذين من دونه؟ بل الظالمون في ضلال مبين}.. وعند هذا الإيقاع الكوني الضخم العميق تنتهي الجولة الأولى بقضاياها ومؤثراتها معروضة في ساحة الكون الكبير. فأما الجولة الثانية فتبدأ من خلال نفوس آدمية، وتتناول القضية ذاتها في المجال ذاته بأسلوب جديد ومؤثرات جديدة.. {ولقد آتينا لقمان الحكمة} فما طبيعة هذه الحكمة وما مظهرها الفريد؟ إنها تتلخص في الاتجاه لله بالشكر: {أن اشكر الله} فهذه هي الحكمة وهذا هو الاتجاه الحكيم.. والخطوة التالية هي اتجاه لقمان لابنه بالنصيحة: نصيحة حكيم لابنه. فهي نصيحة مبرأة من العيب، صاحبها قد أوتي الحكمة. وهي نصيحة غير متهمة، فما يمكن أن تتهم نصيحة والد لولده. هذه النصيحة تقرر قضية التوحيد التي قررتها الجولة الأولى وقضية الآخرة كذلك مصحوبة بهذه المؤثرات النفسية ومعها مؤثرات جديدة: {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}.. ويؤكد هذه القضية بمؤثر آخر فيعرض لعلاقة الأبوة والأمومة بأسلوب يفيض انعطافاً ورحمة: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين} ويقرن قضية الشكر لله بالشكر لهذين الوالدين، فيقدمها عليها: {أن أشكر لي ولوالديك}. . ثم يقرر القاعدة الأولى في قضية العقيدة، وهي أن وشيجة العقيدة هي الوشيجة الأولى، المقدمة على وشيجة النسب والدم. وعلى ما في هذه الوشيجة من انعطاف وقوة إلا أنها تالية للوشيجة الأولى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفاً، واتبع سبيل من أناب إلي}. ويقرر معها قضية الآخرة: {ثم إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون}.. ويتبع هذه القضية بمؤثر هائل وهو يصور عظمة علم الله ودقته وشموله وإحاطته، تصويراً يرتعش له الوجدان البشري وهو يتابعه في المجال الكوني الرحيب: {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل، فتكن في صخرة، أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله. إن الله لطيف خبير}.. ثم يتابع لقمان وصيته لابنه بتكاليف العقيدة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ما يستتبعه هذا وذلك من مواجهة المتاعب التي لا بد أن تواجه صاحب العقيدة، وهو يخطو بها الخطوة الطبيعية، فيتجاوز بها نفسه إلى غيره: {واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور}.. ومع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على المصاب الأدب الواجب. أدب الداعي إلى الله. ألا يتطاول على الناس، فيفسد بالقدوة ما يصلح بالكلام: {ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً، إن الله لا يحب كل مختال فخور. واقصد في مشيك واغضض من صوتك. إن أنكر الأصوات لصوت الحمير}.. والمؤثر النفسي بتحقير التصعير والنفخة ملحوظ في التعبير. وبه تنتهي هذه الجولة الثانية، وقد عالجت القضية ذاتها في مجالها المعهود، بمؤثرات جديدة وبأسلوب جديد. ثم تبدأ الجولة الثالثة.. تبدأ بعرض القضية المعهودة في مجال السماوات والأرض، مصحوبة بمؤثر منتزع من علاقة البشر بالسماوات والأرض وما فيها من نعم سخرها الله لناس وهم لا يشركون: {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة. ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} وفي ظل هذا المؤثر يبدو الجدل في الله مستنكراً من الفطرة، تمجه القلوب المستقيمة.. ثم يتابع استنكار موقف الكفر والجمود: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا} وهو موقف سخيف مطموس، يتبعه بمؤثر مخيف: {أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير؟} ومن ثم يعرض قضية الجزاء في الآخرة مرتبطة بقضية الإيمان والكفر: {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور.. ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم، فننبئهم بما عملوا} ويشير إلى علم الله الواسع الدقيق: {إن الله عليم بذات الصدور} ويصحب ذلك العرض بتهديد مخيف: {نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ} وقرب ختام الجولة يقفهم وجهاً لوجه أمام منطق الفطرة وهي تواجه هذا الكون، فلا تملك إلا الاعتراف بالخالق الواحد الكبير: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن: الله. قل: الحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون} ويختم الجولة بمشهد كوني يصور امتداد علم الله بلا نهاية، وانطلاق مشيئته في الخلق والإنشاء بلا حدود؛ ويجعل من هذا دليلاً كونياً على البعث والإعادة وعلى الخلق والإنشاء: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله. إن الله عزيز حكيم. ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة. إن الله سميع بصير} وتبدأ الجولة الرابعة بمشهد كوني ذي إيقاع خاص في القلب البشري. مشهد الليل وهو يطول فيدخل في جسم النهار ويمتد؛ والنهار وهو يطول فيدخل في جسم الليل ويمتد. ومشهد الشمس والقمر مسخرين في فلكيهما يجريان في حدود مرسومة إلى وقت لا يعلمه إلا خالقهما الخبير بهما وبالناس وبما يعملون: {ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى، وأن الله بما تعملون خبير} ويتخذ من هذا المشهد الكوني دليله إلى الفطرة على القضية المعهودة: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير} ويلمس القلوب بمؤثر آخر من نعمة الله على الناس في صورة الفلك التي تجري في البحر: {ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته؟} ويعقب على هذا بوقفهم أمام منطق الفطرة حين تواجه هول البحر مجردة من غرور القدرة والعلم الذي يبعدها عن بارئها؛ ويتخذ من هذا المنطق دليلاً على قضية التوحيد: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد؛ وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور} وبمناسبة موج البحر وهوله يذكرهم بالهول الأكبر، وهو يقرر قضية الآخرة. الهول الذي يفصم وشائج الدم التي لا يفصلها في الدنيا هول: {يا أيها الناس اتقوا ربكم. واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً. إن وعد الله حق. فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} وعند هذا المقطع وهذا المؤثر الذي يرتجف له الكيان يختم السورة بآية تقرر القضايا التي عالجتها جميعاً، في إيقاع قوي عميق مرهوب: {إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام. وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت. إن الله عليم خبير} وهذه الجولات الأربع بأساليبها ومؤثراتها ودلائلها وآياتها نموذج من أسلوب القرآن الكريم في معالجة القلوب. هذا الأسلوب المختار من خالق القلوب العليم بمداخلها. الخبير بما يصلح لها وما تصلح به من الأساليب. والآن نأخذ في تفصيل هذا الإجمال. فنعرض هذه الجولات الأربع في درسين لما بين كل اثنين منها من ترابط واتساق... {ألم. تلك آيات الكتاب الحكيم. هدى ورحمة للمحسنين، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهم بالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}... الافتتاح بالأحرف المقطعة. «ألف. لام. ميم» والإخبار عنها بأنها: {تلك آيات الكتاب الحكيم} للتنبيه إلى أن آيات الكتاب من جنس تلك الأحرف على نحو ما تقدم في السور المبدوءة بالأحرف واختيار وصف الكتاب هنا بالحكمة، لأن موضوع الحكمة مكرر في هذه السورة، فناسب أن يختار هذا الوصف من أوصاف الكتاب في وجوه المناسب على طريقة القرآن الكريم. ووصف الكتاب بالحكمة يلقي عليه ظلال الحياة والإرادة، فكأنما هو كائن حي متصف بالحكمة في قوله وتوجيهه، قاصد لما يقول، مريد لما يهدف إليه. وإنه لكذلك في صميمه. فيه روح. وفيه حياة. وفيه حركة. وله شخصية ذاتية مميزة. وفيه إيناس. وله صحبة يحس بها من يعيشون معه ويحيون في ظلاله، ويشعرون له بحنين وتجاوب كالتجاوب بين الحي والحي، وبين الصديق والصديق! هذا الكتاب الحكيم. أو آياته. {هدى ورحمة للمحسنين} فهذه حاله الأصيلة الدائمة.. أن يكون هدى ورحمة للمحسنين. هدى يهديهم إلى الطريق الواصل الذي لا يضل سالكوه. ورحمة بما يسكبه الهدى في القلب من راحة وطمأنينة وقرار؛ وما يقود إليه من كسب وخير وفلاح؛ وبما يعقده من الصلات والروابط بين قلوب المهتدين به؛ ثم بين هذه القلوب ونواميس الكون الذي تعيش فيه، والقيم والأحوال والأحداث التي تتعارف عليها القلوب المهتدية، وتتعارف الفطر التي لا تزيغ.. والمحسنون هم: {الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، وهم بالآخرة هم يوقنون}.. وإقامة الصلاة وأداؤها على وجهها وفي وقتها أداء كاملاً تتحقق به حكمتها وأثرها في الشعور والسلوك، وتنعقد به تلك الصلة الوثيقة بين القلب والرب، ويتم به هذا الأنس بالله وتذوق حلاوته التي تعلق القلوب بالصلاة.. وإيتاء الزكاة يحقق استعلاء النفس على شحها الفطري، وإقامة نظام لحياة الجماعة يرتكن إلى التكافل والتعاون. ويجد الواجدون فيه والمحرومون الثقة والطمأنينة ومودات القلوب التي لم يفسدها الترف ولا الحرمان.. واليقين بالآخرة هو الضمان ليقظة القلب البشري، وتطلعه إلى ما عند الله، واستعلائه على أوهاق الأرض، وترفعه على متاع الحياة الدنيا؛ ومراقبة الله في السر والعلن وفي الدقيق والجليل؛ والوصول إلى درجة الإحسان التي سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». وهؤلاء المحسنون هم الذين يكون الكتاب لهم هدى ورحمة؛ لأنهم بما في قلوبهم من تفتح وشفافية يجدون في صحبة هذا الكتاب راحة وطمأنينة؛ ويتصلون بما في طبيعته من هدى ونور، ويدركون مراميه وأهدافه الحكيمة، وتصطلح نفوسهم عليه، وتحس بالتوافق والتناسق ووحدة الاتجاه، ووضوح الطريق. وإن هذا القرآن ليعطي كل قلب بمقدار ما في هذا القلب من حساسية وتفتح وإشراق؛ وبقدر ما يقبل عليه في حب وتطلع وإعزاز. إنه كائن حي يعاطف القلوب الصديقة، ويجاوب المشاعر المتوجهة إليه بالرفرفة والحنين! وأولئك الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم يوقنون بالآخرة.. {أولئك على هدى من ربهم، وأولئك هم المفلحون}. ومن هُدي فقد أفلح، فهو سائر على النور، واصل إلى الغاية، ناج من الضلال في الدنيا، ومن عواقب الضلال في الآخرة؛ وهو مطمئن في رحلته على هذا الكوكب تتناسق خطاه مع دورة الأفلاك ونواميس الوجود؛ فيحس بالأنس والراحة والتجاوب مع كل كائن في الوجود. أولئك المهتدون بالكتاب وآياته، المحسنون، المقيمون للصلاة، المؤتون للزكاة، الموقنون بالآخرة، المفلحون في الدنيا والآخرة.. أولئك فريق.. وفي مقابلهم فريق: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً. أولئك لهم عذاب مهين. وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وقرا. فبشره بعذاب أليم}.. ولهو الحديث كل كلام يلهي القلب ويأكل الوقت، ولا يثمر خيراً ولا يؤتي حصيلة تليق بوظيفة الإنسان المستخلف في هذه الأرض لعمارتها بالخير والعدل والصلاح. هذه الوظيفة التي يقرر الإسلام طبيعتها وحدودها ووسائلها، ويرسم لها الطريق. والنص عام لتصوير نموذج من الناس موجود في كل زمان وفي كل مكان. وبعض الروايات تشير إلى أنه كان تصويراً لحادث معين في الجماعة الإسلامية الأولى. وقد كان النضر بن الحارث يشتري الكتب المحتوية لأساطير الفرس وقصص أبطالهم وحروبهم؛ ثم يجلس في طريق الذاهبين لسماع القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم محاولاً أن يجذبهم إلى سماع تلك الأساطير والاستغناء بها عن قصص القرآن الكريم. ولكن النص أعم من هذا الحادث الخاص إذا صح أنه وارد فيه. وهو يصور فريقاً من الناس واضح السمات، قائماً في كل حين. وقد كان قائماً على عهد الدعوة الأولى في الوسط المكي الذي نزلت فيه هذه الآيات. {ومن الناس من يشتري لهو الحديث}.. يشتريه بماله ويشتريه بوقته، ويشتريه بحياته. يبذل تلك الأثمان الغالية في لهو رخيص، يفني فيه عمره المحدود، الذي لا يعاد ولا يعود، يشتري هذا اللهو {ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً} فهو جاهل محجوب، لا يتصرف عن علم، ولا يرمي عن حكمة؛ وهو سيِّئ النية والغاية، يريد ليضل عن سبيل الله. يضل نفسه ويضل غيره بهذا اللهو الذي ينفق فيه الحياة. وهو سيِّئ الأدب يتخذ سبيل الله هزواً، ويسخر من المنهج الذي رسمه الله للحياة وللناس. ومن ثم يعالج القرآن هذا الفريق بالمهانة والتهديد قبل أن يكمل رسم الصورة: {أولئك لهم عذاب مهين}.. ووصف العذاب بأنه مهين مقصود هنا للرد على سوء الأدب والاستهزاء بمنهج الله وسبيله القويم. ثم يمضي في استكمال صورة ذلك الفريق: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها} وهو مشهد فيه حركة ترسم هيئة المستكبر المعرض المستهين. ومن ثم يعالجه بوخزة مهينة تدعو إلى تحقير هذه الهيئة: {كأن في أذنيه وقرا} وكأن هذا الثقل في أذنيه يحجبه عن سماع آيات الله الكريمة، وإلا فما يسمعها إنسان له سمع ثم يعرض عنها هذا الإعراض الذميم. ويتمم هذه الإشارة المحقرة بتهكم ملحوظ: {فبشره بعذاب أليم} فما البشارة في هذا الموضوع إلا نوع من التهكم المهين؛ يليق بالمتكبرين المستهزئين! وبمناسبة الحديث عن جزاء الكافرين المستكبرين المعرضين يتحدث عن جزاء المؤمنين العاملين، الذين تحدث عنهم في صدر السورة؛ ويفصل شيئاً من أمر فلاحهم الذي أجمله هناك: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم، خالدين فيها وعد الله حقاً، وهو العزيز الحكيم}.. وحيثما ذكر الجزاء في القرآن الكريم ذكر قبله العمل الصالح مع الإيمان. فطبيعة هذه العقيدة تقتضي ألا يظل الإيمان في القلب حقيقة مجردة راكدة معطلة مكنونة؛ إنما هو حقيقة حية فاعلة متحركة، ما تكاد تستقر في القلب ويتم تمامها حتى تتحرك لتحقق ذاتها في العمل والحركة والسلوك؛ ولتترجم عن طبيعتها بالآثار البارزة في عالم الواقع، المنبئة عما هو كائن منها في عالم الضمير. وهؤلاء الذين آمنوا وحققوا إيمانهم بالعمل الصالح {لهم جنات النعيم خالدين فيها}.. لهم هذه الجنات وهذا الخلود تحقيقاً لوعد الله الحق. {وعد الله حقاً} فقد بلغ من فضل الخالق على العباد أن يوجب على نفسه الإحسان إليهم جزاء إحسانهم لأنفسهم لا له سبحانه! وهو الغني عن الجميع! {وهو العزيز الحكيم}.. القادر على تحقيق وعده، الحكيم في الخلق والوعد والتحقيق. وآية القدرة، وآية الحكمة، وبرهان تلك القضايا السابقة في سياق السورة.. آية ذلك كله وبرهانه هو هذا الكون الكبير الهائل، الذي لا يدعي أحد من البشر أنه خلقه، ولا أن أحداً آخر خلقه من دون الله؛ وهو ضخم هائل دقيق النظام، متناسق التكوين، يأخذ بالقلب، ويبهر اللب، ويواجه الفطرة مواجهة جاهرة لا تملك الإفلات منها أو الإعراض عنها؛ ولا تملك إلا التسليم بوحدانية الخالق العظيم، وضلال من يشرك به آلهة أخرى ظلماً للحق الواضح المبين: {خلق السماوات بغير عمد ترونها، وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم، وبث فيها من كل دابة، وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم. هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه؟ بل الظالمون في ضلال مبين}.. وهذه السماوات بظاهر مدلولها ودون تعمق في أية بحوث علمية معقدة تواجه النظر والحس، هائلة فسيحة سامقة. وسواء أكانت السماوات هي هذه الكواكب والنجوم والمجرات والسدم السابحة في الفضاء الذي لا يعلم سره ومداه إلا الله؛ أو كانت هي هذه القبة التي تراها العين ولا يعرف أحد ما هي على وجه التحقيق. سواء أكانت السماوات هذه أو تلك فهناك خلائق ضخمة هائلة معلقة بغير عمد تسندها؛ والناس يرونها حيثما امتدت أبصارهم بالليل والنهار. ومهما نأت بهم الأبعاد والأسفار على ظهر كوكبهم السيار. ومجرد تأملها بالعين المجردة، ودون إدراك حقيقة ضخامتها التي تدير الرؤوس، كاف وحده لرعشة الكيان الإنساني وارتجافه أمام الضخامة الهائلة التي لا نهاية لها ولا حدود. وأمام النظام العجيب الذي يمسك بهذه الخلائق كلها في مثل هذا التناسق. وأمام هذا الجمال البديع الذي يجتذب العين للنظر فلا تمل، ويجتذب القلب للتأمل فلا يكل؛ ويستغرق الحس فلا يكاد يؤوب من ذلك التأمل الطويل المديد! فكيف إذا عرف الإنسان أن كل نقطة من هذه النقط الصغيرة المضيئة السابحة في هذا الفضاء الهائل قد تبلغ كتلتها أضعاف كتلة الأرض التي تقله ملايين المرات؟ ومن هذه الرحلة الهائلة في أجواز الفضاء على إيقاع تلك الإشارة السريعة: {خلق السماوات بغير عمد ترونها} يرتد السياق بالقلب البشري إلى الأرض فيستقر عليها وما يكاد! إلى الأرض الصغيرة. الذرة، التي لا تبلغ أن تكون هباءة في كتلة الكون الضخمة. يرتد إلى هذه الأرض التي يراها الإنسان فسيحة لا يبلغ أطرافها فرد واحد في عمره القصير، ولو قضاه في رحلة دائمة على هذا الكوكب الصغير؟ يرتد بالقلب إلى هذه الأرض ليعيد النظر إليها بحس مفتوح يقظ، وليجلو عنه ملالة التكرار والألفة لمشاهد هذه الأرض العجيبة: {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم}.. والرواسي الجبال. ويقول علماء طبقات الأرض؛ إنها تضاريس في قشرة الكرة الأرضية تنشأ من برودة جوف الأرض وتجمد الغازات فيه، ونقص حجمها، فتنكمش القشرة الأرضية وتتجعد، وتقع فيها المرتفعات والمنخفضات وفق الانكماشات الداخلية في حجم الغازات حين تبرد ويصغر حجمها هنا وهناك. وسواء أصحّت هذه النظرية أم لم تصح، فهذا كتاب الله يقرر أن وجود هذه الجبال يحفظ توازن الأرض فلا تميد ولا تتأرجح ولا تهتز. وقد تكون نظرية علماء الأرض صحيحة ويكون بروز الجبال على هذا النحو حافظاً لتوازن الأرض عند انكماش الغازات وتقبض القشرة الأرضية هنا وهناك، ويكون نتوء الجبال هنا موازناً لانخفاض في قشرة الأرض هناك. وكلمة الله هي العليا على كل حال. والله هو أصدق القائلين. {وبث فيها من كل دابة}.. وهذه إحدى عجائب الوجود الكبيرة. فوجود الحياة على هذه الأرض سر لا يدعي أحد حتى اليوم إدراكه ولا تفسيره. الحياة في أول صورها. في الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة. فكيف بضخامة هذا السر والحياة تتنوع وتتركب وتتعدد أنواعها وأجناسها وفصائلها وأنماطها إلى غير حد يعلمه الإنسان أو يحصيه؟ ومع هذا فإن أكثر الناس يمرون بهذه العجائب مغمضي العيون مطموسي القلوب وكأنما يمرون على شيء عادي لا يستلفت النظر. بينما هم يقفون مدهوشين مذهولين أمام جهاز من صنع الإنسان ساذج صغير بسيط التكوين حين يقاس إلى خلية واحدة من الخلايا الحية، وتصرفها الدقيق المنظم العجيب. ودعك من الأحياء المقعدة. فضلاً على الإنسان، الذي يحوي جسمه مئات المعامل الكيماوية العجيبة ومئات المخازن للإيداع والتوزيع، ومئات المحطات اللاسلكية للإرسال والاستقبال؛ ومئات الوظائف المعقدة التي لا يعرف سرها إلا العليم الخبير!!! {وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم}.. وإنزال الماء من السماء إحدى العجائب الكونية التي نمر عليها كذلك غافلين. هذا الماء الذي تفيض به مجاري الأنهار، والذي تمتلئ به البحيرات، والذي تتفجر به العيون.. هذا كله ينزل من السماء وفق نظام دقيق، مرتبط بنظام السماوات والأرض، وما بينهما من نسب وأبعاد، ومن طبيعة وتكوين.. وإنبات النبات من الأرض بعد نزول الماء عجيبة أخرى لا ينقضي منها العجب. عجيبة الحياة، وعجيبة التنوع، وعجيبة الوراثة للخصائص الكامنة في البذرة الصغيرة، لتعيد نفسها في النبتة وفي الشجرة الكبيرة. وإن دراسة توزيع الألوان في زهرة واحدة من نبتة واحدة لتقود القلب المفتوح إلى أعماق الحياة وأعماق الإيمان بالله مبدع هذه الحياة.. والنص القرآني يقرر أن الله أنبت النبات أزواجاً: {من كل زوج كريم} وهي حقيقة ضخمة اهتدى إليها العلم بالاستقراء قريباً جداً. فكل نبات له خلايا تذكير وخلايا تأنيث، إما مجتمعة في زهرة واحدة، أو في زهرتين في العود الواحد، وإما منفصلة في عودين أو شجرتين، ولا توجد الثمرة إلا بعد عملية التقاء وتلقيح بين زوج النبات، كما هو الشأن في الحيوان والإنسان سواء. ووصف الزوج بأنه {كريم} يلقي ظلاً خاصاً مقصوداً في هذا الموضع ليصبح لائقاً بأن يكون {خلق الله} وليرفعه أمام الأنظار مشيراً إليه.. {هذا خلق الله} وليتحداهم به ويتحدى دعواهم المتهافتة.. {فأروني ماذا خلق الذين من دونه؟}.. وليعقب على هذا التحدي في أنسب وقت: {بل الظالمون في ضلال مبين}.. وأي ضلال وأي ظلم بعد هذا الشرك، في هذا المعرض الكوني الباهر الجليل؟ وعند هذا الإيقاع القوي يختم الجولة الأولى في السورة ذلك الختام المؤثر العميق. بعد ذلك يبدأ الجولة الثانية. يبدؤها في نسق جديد. نسق الحكاية والتوجيه غير المباشر. ويعالج قضية الشكر لله وحده، وتنزيهه عن الشرك كله، وقضية الآخرة والعمل والجزاء في خلال الحكاية. {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله؛ ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن الله غني حميد}. ولقمان الذي اختاره القرآن ليعرض بلسانه قضية التوحيد وقضية الآخرة تختلف في حقيقته الروايات: فمن قائل: إنه كان نبياً، ومن قائل: إنه كان عبداً صالحاً من غير نبوة والأكثرون على هذا القول الثاني ثم يقال: إنه كان عبداً حبشياً، ويقال: إنه كان نوبياً. كما قيل: إنه كان في بني إسرائيل قاضياً من قضاتهم.. وأياً من كان لقمان فقد قرر القرآن أنه رجل آتاه الله الحكمة. الحكمة التي مضمونها ومقتضاها الشكر لله: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله}.. وهذا توجيه قرآني ضمني إلى شكر الله اقتداء بذلك الرجل الحكيم المختار الذي يعرض قصته وقوله. وإلى جوار هذا التوجيه الضمني توجيه آخر، فشكر الله إنما هو رصيد مذخور للشاكر ينفعه هو، والله غني عنه. فالله محمود بذاته ولو لم يحمده أحد من خلقه: {ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه. ومن كفر فإن الله غني حميد}.. وإذن فأحمق الحمقى هو من يخالف عن الحكمة؛ ولا يدخر لنفسه مثل ذلك الرصيد. ثم تجيء قضية التوحيد في صورة موعظة من لقمان الحكيم لابنه: {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني لا تشرك بالله. إن الشرك لظلم عظيم}.. وإنها لعظة غير متهمة؛ فما يريد الوالد لولده إلا الخير؛ وما يكون الوالد لولده إلا ناصحاً. وهذا لقمان الحكيم ينهى ابنه عن الشرك؛ ويعلل هذا النهي بأن الشرك ظلم عظيم. ويؤكد هذه الحقيقة مرتين. مرة بتقديم النهي وفصل علته. ومرة بإنّ واللام.. وهذه هي الحقيقة التي يعرضها محمد صلى الله عليه وسلم على قومه، فيجادلونه فيها؛ ويشكون في غرضه من وراء عرضها؛ ويخشون أن يكون وراءها انتزاع السلطان منهم والتفضل عليهم! فما القول ولقمان الحكيم يعرضها على ابنه ويأمره بهأ؟ والنصيحة من الوالد لولده مبرأة من كل شبهة، بعيدة من كل ظنة؟ ألا إنها الحقيقة القديمة التي تجري على لسان كل من آتاه الله الحكمة من الناس؛ يرارد بها الخير المحض، ولا يراد بها سواه.. وهذا هو المؤثر النفسي المقصود. وفي ظل نصيحة الأب لابنه يعرض للعلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق؛ ويصور هذه العلاقة صورة موحية فيها انعطاف ورقة. ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة: {ووصينا الإنسان بوالديه، حملته أمه وهناً على وهن، وفصاله في عامين، أن اشكر لي ولوالديك، إليّ المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفاً، واتبع سبيل من أناب إليَّ. ثم إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون}.. وتوصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم، وفي وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلاً. ومعظمها في حالة الوأد وهي حالة خاصة في ظروف خاصة ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها برعاية الوليد من والديه. فالفطرة مدفوعة إلى رعاية الجيل الناشئ لضمان امتداد الحياة، كما يريدها الله؛ وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن كل ما يملكان من عزيز وغال، في غير تأفف ولا شكوى؛ بل في غير انتباه ولا شعور بما يبذلان! بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما هما اللذان يأخذان! فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاة! فأما الوليد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولّي الذاهب في أدبار الحياة، بعدما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة! وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوّض الوالدين بعض ما بذلاه، ولو وقف عمره عليهما. وهذه الصورة الموحية: {حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين} ترسم ظلال هذا البذل النبيل. والأم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر؛ وتجود به في انعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق.. روى الحافظ أبو بكر البزار في مسنده بإسناده «عن بريد عن أبيه أن رجلاً كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل أديت حقها؟ قال: لا. ولا بزفرة واحدة» هكذا.. ولا بزفرة.. في حمل أو في وضع، وهي تحمله وهناً على وهن. وفي ظلال تلك الصورة الحانية يوجه إلى شكر الله المنعم الأول، وشكر الوالدين المنعمين التاليين؛ ويرتب الواجبات، فيجيء شكر الله أولاً ويتلوه شكر الوالدين.. {أن اشكر لي ولوالديك}.. ويربط بهذه الحقيقة حقيقة الآخرة: {إليّ المصير} حيث ينفع رصيد الشكر المذخور. ولكن رابطة الوالدين بالوليد على كل هذا الانعطاف وكل هذه الكرامة إنما تأتي في ترتيبها بعد وشيجة العقيدة. فبقية الوصية للإنسان في علاقته بوالديه: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما}.. فإلى هنا ويسقط واجب الطاعة، وتعلو وشيجة العقيدة على كل وشيجة. فمهما بذل الوالدان من جهد ومن جهاد ومن مغالبة ومن اقناع ليغرياه بأن يشرك بالله ما يجهل ألوهيته وكل ما عدا الله لا ألوهية له فتعلم! فهو مأمور بعدم الطاعة من الله صاحب الحق الأول في الطاعة. ولكن الاختلاف في العقيدة، والأمر بعدم الطاعة في خلافها، لا يسقط حق الوالدين في المعاملة الطيبة والصحبة الكريمة: {وصاحبهما في الدنيا معروفا} فهي رحلة قصيرة على الأرض لا تؤثر في الحقيقة الأصيلة: {واتبع سبيل من أناب إليّ} من المؤمنين {ثم إليَّ مرجعكم} بعد رحلة الأرض المحدودة {فأنبئكم بما كنتم تعملون} ولكل جزاء ما عمل من كفران أو شكران، ومن شرك أو توحيد. روي أن هذه الآية نزلت هي وآية العنكبوت المشابهة وآية الأحقاف كذلك في سعد بن أبي وقاص وأمه (كما قلت في تفسيرها في الجزء العشرين في سورة العنكبوت). وروي أنها نزلت في سعد بن مالك. ورواه الطبراني في كتاب العشرة بإسناده عن داود بن أبي هند. والقصة في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص. وهو الأرجح. أما مدلولها فهو عام في كل حال مماثلة، وهو يرتب الوشائج والروابط كما يرتب الواجبات والتكاليف. فتجيء الرابطة في الله هي الوشيجة الأولى، ويجيء التكليف بحق الله هو الواجب الأول. والقرآن الكريم يقرر هذه القاعدة ويؤكدها في كل مناسبة وفي صور شتى لتستقر في وجدان المؤمن واضحة حاسمة لا شبهة فيها لا غموض. وبعد هذا الاستطراد المعترض في سياق وصية لقمان لابنه، تجيء الفقرة التالية في الوصية، لتقرر قضية الآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل. ولكن هذه الحقيقة لا تعرض هكذا مجردة، إنما تعرض في المجال الكوني الفسيح، وفي صورة مؤثرة يرتعش لها الوجدان، وهو يطالع علم الله الشامل الهائل الدقيق اللطيف: {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل، فتكن في صخرة، أو في السماوات، أو في الأرض، يأت بها الله. إن الله لطيف خبير}.. وما يبلغ تعبير مجرد عن دقة علم الله وشموله، وعن قدرة الله سبحانه، وعن دقة الحساب وعدالة الميزان ما يبلغه هذا التعبير المصور. وهذا فضل طريقة القرآن المعجزة الجميلة الأداء، العميقة الإيقاع.. حبة من خردل. صغيرة ضائعة لا وزن لها ولا قيمة. {فتكن في صخرة}.. صلبة محشورة فيها لا تظهر ولا يتوصل إليها. {أو في السماوات}.. في ذلك الكيان الهائل الشاسع الذي يبدو فيه النجم الكبير ذو الجرم العظيم نقطة سابحة أو ذرة تائهة. {أو في الأرض} ضائعة في ثراها وحصاها لا تبين. {يأت بها الله}.. فعلمه يلاحقها، وقدرته لا تفلتها. {إن الله لطيف خبير}.. تعقيب يناسب المشهد الخفي اللطيف. ويظل الخيال يلاحق تلك الحبة من الخردل في مكامنها تلك العميقة الوسيعة؛ ويتملى علم الله الذي يتابعها. حتى يخشع القلب وينيب، إلى اللطيف الخبير بخفايا الغيوب. وتستقر من وراء ذلك تلك الحقيقة التي يريد القرآن إقرارها في القلب. بهذا الأسلوب العجيب. ويمضي السياق في حكاية قول لقمان لابنه وهو يعظه. فإذا هو يتابع معه خطوات العقيدة بعد استقرارها في الضمير. بعد الإيمان بالله لا شريك له؛ واليقين بالآخرة لا ريب فيها؛ والثقة بعدالة الجزاء لا يفلت منه مثقال حبة من خردل.. فأما الخطة التالية فهي التوجه إلى الله بالصلاة، والتوجه إلى الناس بالدعوة إلى الله، والصبر على تكاليف الدعوة ومتاعبها التي لا بد أن تكون: {يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك.
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} تبدأ الجولة الثالثة بنسق جديد. تبدأ بعرض الدليل الكوني مرتبطاً بالناس، متلبساً بمصالحهم وحياتهم ومعاشهم، متعلقاً بنعم الله عليهم، نعمه الظاهرة ونعمه الباطنة، تلك التي يستمتعون بها، ولا يستحيون معها أن يجادلوا في الله المنعم المتفضل الوهاب.. ثم تسير على هذا النسق في تقرير القضية الأولى التي عالجتها الجولتان الأولى والثانية.. {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض؛ وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة؟ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير؟}.. وهذه اللفتة المكررة في القرآن بشتى الأساليب تبدو جديدة في كل مرة، لأن هذا الكون لا يزال يتجدد في الحس كلما نظر إليه القلب، وتدبر أسراره، وتأمل عجائبه التي لا تنفد؛ ولا يبلغ الإنسان في عمره المحدود أن يتقصاها؛ وهي تبدو في كل نظرة بلون جديد، وإيقاع جديد. والسياق يعرضها هنا من زاوية التناسق بين حاجات الإنسان على الأرض وتركيب هذا الكون! مما يقطع بأن هذا التناسق لا يمكن أن يكون فلتة ولا مصادفة؛ وأنه لا مفر من التسليم بالإرادة الواحدة المدبرة، التي تنسق بين تركيب هذا الكون الهائل وحاجات البشر على هذا الكوكب الصغير الضئيل.. الأرض.. ! إن الأرض كلها لا تبلغ أن تكون ذرة صغيرة في بناء الكون. والإنسان في هذه الأرض خليقة صغيرة هزيلة ضعيفة بالقياس إلى حجم هذه الأرض، وبالقياس إلى ما فيها من قوى ومن خلائق حية وغير حية، لا يعد الإنسان من ناحية حجمه ووزنه وقدرته المادية شيئاً إلى جوارها. ولكن فضل الله على هذا الإنسان ونفخته فيه من روحه، وتكريمه له على كثير من خلقه.. هذا الفضل وحده قد اقتضى أن يكون لهذا المخلوق وزن في نظام الكون وحساب. وأن يهيء الله له القدرة على استخدام الكثير من طاقات هذا الكون وقواه، ومن ذخائره وخيراته. وهذا هو التسخير المشار إليه في الآية، في معرض نعم الله الظاهرة والباطنة، وهي أعم من تسخير ما في السماوات وما في الأرض. فوجود الإنسان ابتداء نعمة من الله وفضل؛ وتزويده بطاقاته واستعداداته ومواهبه هذه نعمة من الله وفضل؛ وإرسال رسله وتنزيل كتبه فضل أكبر ونعمة أجل؛ ووصله بروح الله من قبل هذا كله نعمة من الله وفضل؛ وكل نفس يتنفسه، وكل خفقة يخفقها قلبه، وكل منظر تلتقطه عينه، وكل صوت تلتقطه أذنه، وكل خاطر يهجس في ضميره، وكل فكرة يتدبرها عقله.. إن هي إلا نعمة ما كان لينالها لولا فضل الله. وقد سخر الله لهذا المخلوق الإنساني ما في السماوات، فجعل في مقدوره الانتفاع بشعاع الشمس ونور القمر وهدي النجوم، وبالمطر والهواء والطير السابح فيه. وسخر له ما في الأرض. وهذا أظهر وأيسر ملاحظة وتدبراً. فقد أقامه خليفة في هذا الملك الطويل العريض، ومكنه من كل ما تذخر به الأرض من كنوز. ومنه ما هو ظاهر ومنه ما هو مستتر. ومنه ما يعرفه الإنسان ومنه ما لا يدرك إلا آثاره؛ ومنه ما لم يعرفه أصلاً من أسرار القوى التي ينتفع بها دون أن يدري. وإنه لمغمور في كل لحظة من لحظات الليل والنهار بنعمة الله السابغة الوافرة التي لا يدرك مداها، ولا يحصي أنماطها.. ومع هذا كله فإن فريقاً من الناس لا يشكرون ولا يذكرون ولا يتدبرون ما حولهم، ولا يوقنون بالمنعم المتفضل الكريم. {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير}.. وتبدو هذه المجادلة مستغربة مستنكرة في ظل ذلك البرهان الكوني، وفي جوار هذه النعمة السابغة. ويبدو الجحود والإنكار بشعاً شنيعاً قبيحاً، تنفر منه الفطرة، ويقشعر منه الضمير. ويبدو هذا الفريق من الناس الذي يجادل في حقيقة الله، وعلاقة الخلق بهذه الحقيقة. يبدو منحرف الفطرة ولا يستجيب لداعي الكون كله من حوله؛ جاحداً النعمة لا يستحيي أن يجادل في المنعم بكل هذه النعم السابغة. ويزيد موقفه بشاعة أنه لا يرتكن في هذا الجدال إلى علم؛ ولا يهتدي بهدى، ولا يستند إلى كتاب ينير له القضية ويقدم له الدليل. {وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا}.. فهذا هو سندهم الوحيد، وهذا هو دليلهم العجيب! التقليد الجامد المتحجر الذي لا يقوم على علم ولا يعتمد على تفكير. التقليد الذي يريد الإسلام أن يحررهم منه؛ وأن يطلق عقولهم لتتدبر؛ ويشيع فيها اليقظة والحركة والنور، فيأبوا هم الانطلاق من إسار الماضي المنحرف، ويتمسكوا بالأغلال والقيود. إن الإسلام حرية في الضمير، وحركة في الشعور، وتطلع إلى النور، ومنهج جديد للحياة طليق من إسار التقليد والجمود. ومع ذلك كان يأباه ذلك الفريق من الناس، ويدفعون عن أرواحهم هداه، ويجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.. ومن ثم يسخر منهم ويتهكم عليهم، ويشير من طرف خفي إلى عاقبة هذا الموقف المريب: {أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير؟}.. فهذا الموقف إنما هو دعوة من الشيطان لهم، لينتهي بهم إلى عذاب السعير. فهل هم مصرون عليه ولو قادهم إلى ذلك المصير؟... لمسة موقظة ومؤثر مخيف، بعد ذلك الدليل الكوني العظيم اللطيف. وبمناسبة ذلك الجدال المتعنت الذي لا يستند إلى علم، ولا يهتدي بهدى، ولا يستمد من كتاب. يشير إلى السلوك الواجب تجاه الدليل الكوني والنعمة السابغة: {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى، وإلى الله عاقبة الأمور}. إنه الاستسلام المطلق لله مع إحسان العمل والسلوك الاستسلام بكامل معناه، والطمأنينة لقدر الله. والانصياع لأوامر الله وتكاليفه وتوجيهاته مع الشعور بالثقة والاطمئنان للرحمة، والاسترواح للرعاية، والرضى الوجداني، رضى السكون والارتياح.. كل أولئك يرمز له بإسلام الوجه إلى الله. والوجه أكرم وأعلى ما في الإنسان.. {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى}.. العروة التي لا تنقطع ولا تهن ولا تخون ممسكاً بها في سراء أو ضراء، ولا يضل من يشد عليها في الطريق الوعر والليلة المظلمة، بين العواصف والأنواء! هذه العروة الوثقى هي الصلة الوثيقة الثابتة المطمئنة بين قلب المؤمن المستسلم وربه. هي الطمأنينة إلى كل ما يأتي به قدر الله في رضى وفي ثقة وفي قبول، طمأنينة تحفظ للنفس هدوءها وسكينتها ورباطة جأشها في مواجهة الأحداث، وفي الاستعلاء على السراء فلا تبطر، وعلى الضراء فلا تصغر؛ وعلى المفاجآت فلا تذهل؛ وعلى اللأواء في طريق الإيمان، والعقبات تتناثر فيه من هنا ومن هناك. إن الرحلة طويلة وشاقة وحافلة بالأخطار. وخطر المتاع فيها والوجدان ليس أصغر ولا أقل من خطر الحرمان فيها والشقاء. وخطر السراء فيها ليس أهون ولا أيسر من خطر الضراء. والحاجة إلى السند الذي لا يهن، والحبل الذي لا ينقطع، حاجة ماسة دائمة. والعروة الوثقى هي عروة الإسلام لله والاستسلام والإحسان. {وإلى الله عاقبة الأمور}.. وإليه المرجع والمصير. فخير أن يسلم الإنسان وجهه إليه منذ البداية؛ وأن يسلك إليه الطريق على ثقة وهدى ونور.. {ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم، فننبئهم بما عملوا، إن الله عليم بذات الصدور. نمتعهم قليلاً، ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ}.. تلك نهاية من يسلم وجهه إلى الله وهو محسن. وهذه نهاية من يكفر ويخدعه متاع الحياة. نهايته في الدنيا تهوين شأنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين. {ومن كفر فلا يحزنك كفره}.. فشأنه أهون من أن يحزنك، وأصغر من أن يهمك.. ونهايته في الأخرى التهوين من شأنه كذلك. وهو في قبضة الله لا يفلت وهو مأخوذ بعمله، والله أعلم بما عمل وبما يخفيه في صدره من نوايا: {إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا. إن الله عليم بذات الصدور}.. ومتاع الحياة الذي يخدعه قليل، قصير الأجل، زهيد القيمة.. {نمتعهم قليلاً}.. والعاقبة بعد ذلك مروعة فظيعة وهو مدفوع إليها دفعاً لا يملك لها رداً: {ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ}.. ووصف العذاب بالغلظ يجسمه على طريقة القرآن والتعبير بالاضطرار يلقي ظل الهول الذي يحاول الكافر ألا يواجهه، مع العجز عن دفعه، أو التلكؤ دونه! فأين هذا ممن يسلم وجهه إلى الله ويستمسك بالعروة الوثقى، ويصير إلى ربه في النهاية هادئ النفس مطمئن الضمير؟ ثم يقفهم أمام منطق فطرتهم، حين تواجه الكون، فلا تجد مناصاً من الاعتراف بالحقيقة الكامنة فيها وفي فطرة الكون على السواء؛ ولكنهم يزيغون عنها وينحرفون، ويغفلون منطقها القويم: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض؟ ليقولن: الله. قل: الحمد لله. بل أكثرهم لا يعلمون. لله ما في السماوات والأرض. إن الله هو الغني الحميد}.. وما يملك الإنسان حين يستفتي فطرته ويعود إلى ضميره أن ينكر هذه الحقيقة الواضحة الناطقة. فهذه السماوات والأرض قائمة. مقدرة أوضاعها وأحجامها وحركاتها وأبعادها، وخواصها وصفاتها. مقدرة تقديراً يبدو فيه القصد، كما يبدو فيه التناسق. وهي قبل ذلك خلائق لا يدعي أحد أنه خلقها؛ ولا يدعي أحد أن خالقاً آخر غير الله شارك فيها؛ ولا يمكن أن توجد هكذا بذاتها. ثم لا يمكن أن تنتظم وتتسق وتقوم وتتناسق بدون تدبير، وبدون مدبر. والقول بأنها وجدت وقامت تلقائياً أو فلتة أو مصادفة لا يستحق احترام المناقشة. فضلاً على أن الفطرة من أعماقها تنكره وترده. وأولئك الذين كانوا يواجهون عقيدة التوحيد بالشرك؛ ويقابلون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجدال العنيف؛ لم يكونوا يستطيعون أن يزيفوا منطق فطرتهم حين تواجه بالدليل الكوني الممثل في وجود السماوات والأرض، وقيامهما أمام العين، لا تحتاجان إلى أكثر من النظر! ومن ثم لم يكونوا يتلجلجون في الجواب: لو سئلوا: {من خلق السماوات والأرض؟} وجوابهم {الله}.. لذلك يوجه الله رسوله صلى الله عليه وسلم ليعقب على جوابهم هذا بحمد الله: {قل: الحمد لله}.. الحمد لله على وضوح الحق في الفطرة، والحمد لله على هذا الإقرار القهري أمام الدليل الكوني. والحمد لله على كل حال. ثم يضرب عن الجدل والتعقيب بتعقيب آخر: {بل أكثرهم لا يعلمون}.. ومن ثم يجادلون ويجهلون منطق الفطرة، ودلالة هذا الكون على خالقه العظيم. وبمناسبة إقرار فطرتهم بخلق الله للسماوات والأرض يقرر كذلك ملكية الله المطلقة لكل ما في السماوات والأرض. ما سخره للإنسان وما لم يسخره. وهو مع ذلك الغني عن كل ما في السماوات والأرض، المحمود بذاته ولو لم يتوجه إليه الناس بالحمد: {لله ما في السماوات والأرض. إن الله هو الغني الحميد}.. والآن تختم هذه الجولة بمشهد كوني يرمز إلى غنى الله الذي لا ينفد، وعلمه الذي لا يحد، وقدرته على الخلق والتكوين المتجددين بغير ما نهاية، ومشيئته المطلقة التي لا نهاية لما تريد: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر، ما نفدت كلمات الله. إن الله عزيز حكيم. ما خلْقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة. إن الله سميع بصير}.. إنه مشهد منتزع من معلومات البشر ومشاهداتهم المحدودة، ليقرب إلى تصورهم معنى تجدد المشيئة الذي ليس له حدود؛ والذي لا يكاد تصورهم البشري يدركه بغير هذا التجسيم والتمثيل. إن البشر يكتبون علمهم، ويسجلون قولهم، ويمضون أوامرهم، عن طريق كتابتها بأقلام كانت تتخذ من الغاب والبوص يمدونها بمداد من الحبر ونحوه. لا يزيد هذا الحبر على ملء دواة أو ملء زجاجة! فها هو ذا يمثل لهم أن جميع ما في الأرض من شجر تحول أقلاماً. وجميع ما في الأرض من بحر تحول مداداً. بل إن هذا البحر أمدته سبعة أبحر كذلك.. وجلس الكتاب يسجلون كلمات الله المتجددة، الدالة على علمه، المعبرة عن مشيئته.. فماذا؟ لقد نفدت الأقلام ونفد المداد. نفدت الأشجار ونفدت البحار.. وكلمات الله باقية لم تنفد، ولم تأت لها نهاية.. إنه المحدود يواجه غير المحدود. ومهما يبلغ المحدود فسينتهي؛ ويبقى غير المحدود لم ينقص شيئاً على الإطلاق.. إن كلمات الله لا تنفد، لأن علمه لا يحد، ولأن إرادته لا تكف، ولأن مشيئته سبحانه ماضية ليس لها حدود ولا قيود. وتتوارى الأشجار والبحار، وتنزوي الأحياء والأشياء؛ وتتوارى الأشكال والأحوال. ويقف القلب البشري خاشعاً أمام جلال الخالق الباقي الذي لا يتحول ولا يتبدل ولا يغيب؛ وأمام قدرة الخالق القوي المدبر الحكيم: {إن الله عزيز حكيم}.. وأمام هذا المشهد الخاشع يلقي بالإيقاع الأخير في هذه الجولة؛ متخذاً من ذلك المشهد دليلاً كونياً على يسر الخلق وسهولة البعث: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة. إن الله سميع بصير}.. والإرادة التي تخلق بمجرد توجه المشيئة إلى الخلق، يستوي عندها الواحد والكثير؛ فهي لا تبذل جهداً محدوداً في خلق كل فرد، ولا تكرر الجهد مع كل فرد. وعندئذ يستوي خلق الواحد وخلق الملايين. وبعث النفس الواحدة وبعث الملايين. إنما هي الكلمة. هي المشيئة: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} ومع القدرة العلم والخبرة مصاحبين للخلق والبعث وما وراءهما من حساب وجزاء دقيق: {إن الله سميع بصير}.. وتأتي الجولة الأخيرة تعالج القضية التي عالجتها الجولات الثلاث من قبل. فتقرر أن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل. وتقرر إخلاص العبادة لله وحده. وتقرر قضية اليوم الآخر الذي لا يجزى فيه والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً.. وتستصحب مع هذه القضايا مؤثرات منوعة جديدة. وتعرضها في المجال الكوني الفسيح.. {ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل؟ وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى؟ وأن الله بما تعملون خبير؟ ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل، وأن الله هو العلي الكبير}. ومشهد دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل، وتناقصهما وامتدادهما عند اختلاف الفصول، مشهد عجيب حقاً، ولكن طول الألفة والتكرار يفقد أكثر الناس الحساسية تجاهه فلا يلحظون هذه العجيبة، التي تتكرر بانتظام دقيق، لا يتخلف مرة ولا يضطرب؛ ولا تنحرف تلك الدورة الدائبة التي لا تكل ولا تحيد.. والله وحده هو القادر على إنشاء هذا النظام وحفظه؛ ولا يحتاج إدراك هذه الحقيقة إلى أكثر من رؤية تلك الدورة الدائبة التي لا تكل ولا تحيد. وعلاقة تلك الدورة بالشمس والقمر وجريانهما المنتظم علاقة واضحة. وتسخير الشمس والقمر عجيبة أضخم من عجيبة الليل والنهار ونقصهما وزيادتهما. وما يقدر على هذا التسخير إلا الله القدير الخبير. وهو الذي يقدر ويعلم أمد جريانهما إلى الوقت المعلوم. ومع حقيقة إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل؛ وحقيقة تسخير الشمس والقمر وهما حقيقتان كونيتان بارزتان حقيقة أخرى مثلهما يقررها معهما في آية واحدة: {وأن الله بما تعملون خبير}.. وهكذا تبرز هذه الحقيقة الغيبية، إلى جانب الحقائق الكونية. حقيقة مثلها، ذات ارتباط بها وثيق. ثم يعقب على هذه الحقائق الثلاث بالحقيقة الكبرى التي تقوم عليها الحقائق جميعاً. الحقيقة الأولى التي تنبثق منها الحقائق جميعاً. وهي الحقيقة التي تعالجها الجولة؛ وتقدم لها بهذا الدليل: {ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل، وأن الله هو العلي الكبير}.. ذلك.. ذلك النظام الكوني الثابت الدائم المنسق الدقيق.. ذلك النظام قائم بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل. قائم بهذه الحقيقة الكبرى التي تعتمد عليها كل حقيقة، والتي يقوم بها هذا الوجود. فكون الله هو الحق. سبحانه. هو الذي يقيم هذا الكون، وهو الذي يحفظه، وهو الذي يدبره، وهو الذي يضمن له الثبات والاستقرار والتماسك والتناسق، ما شاء الله له أن يكون.. {ذلك بأن الله هو الحق}.. كل شيء غيره يتبدل. وكل شيء غيره يتحول. وكل شيء غيره تلحقه الزيادة والنقصان، وتتعاوره القوة والضعف، والازدهار والذبول، والإقبال والإدبار. وكل شيء غيره يوجد بعد أن لم يكن، ويزول بعد أن يكون. وهو وحده سبحانه الدائم الباقي الذي لا يتغير ولا يتبدل ولا يحول ولا يزول.. ثم تبقى في النفس بقية من قوله تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق}.. بقية لا تنقلها الألفاظ ولا يستقل بها التعبير البشري الذي أملك. بقية يتمثلها القلب ويستشعرها الضمير؛ ويحسها الكيان الإنساني كله ويقصر عنها التعبير!.. وكذلك: {وأن الله هو العلي الكبير}.. الذي ليس غيره «عليّ» ولا «كبير»!!! ترى قلت شيئاً يفصح عما يخالج كياني كله أمام التعبير القرآني العجيب؟ أحس أن كل تعبير بشري عن مثل هذه الحقائق العليا ينقص منها ولا يزيد؛ وأن التعبير القرآني كما هو هو وحده التعبير الموحي الفريد!!! ويعقب السياق على ذلك المشهد الكوني، وهذه اللمسة الوجدانية، بمشهد آخر من مألوف حياة البشر. مشهد الفلك تجري في البحر بفضل الله. ويقفهم في هذا المشهد أمام منطق الفطرة حين تواجه هول البحر وخطره، مجردة من القوة والبأس والبطر والغرور: {ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته؟ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور. وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد، وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور}.. والفلك تجري في البحر وفق النواميس التي أودعها الله البحر والفلك والريح والأرض والسماء. فخلقة هذه الخلائق بخواصها هذه هي التي جعلت الفلك تجري في البحر ولا تغطس أو تقف. ولو اختلت تلك الخواص أي اختلال ما جرت الفلك في البحر. لو اختلت كثافة الماء أو كثافة مادة الفلك. لو اختلت نسبة ضغط الهواء على سطح البحر. لو اختلت التيارات المائية والهوائية. لو اختلت درجة الحرارة عن الحد الذي يبقي الماء ماء، ويبقي تيارات الماء والهواء في الحدود المناسبة.. لو اختلت نسبة واحدة أي اختلال ما جرت الفلك في الماء، وبعد ذلك كله يبقى أن الله هو حارس الفلك وحاميها فوق ثبج الأمواج وسط العواصف والأنواء، حيث لا عاصم لها إلا الله. فهي تجري بنعمة الله وفضله على كل حال. ثم هي تجري حاملة نعمة الله وفضله كذلك. والتعبير يشمل هذا المعنى وذاك: {ليريكم من آياته}.. وهي معروضة للرؤية، يراها من يريد أن يرى؛ وليس بها من غموض ولا خفاء.. {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}.. صبار في الضراء، شكور في السراء؛ وهما الحالتان اللتان تتعاوران الإنسان. ولكن الناس لا يصبرون، ولا يشكرون، إنما يصيبهم الضر فيجأرون، وينجيهم الله من الضر فلا يشكر منهم إلا القليل: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين}.. فأمام مثل هذا الخطر، والموج يغشاهم كالظلل والفلك كالريشة الحائرة في الخضم الهائل.. تتعرى النفوس من القوة الخادعة، وتتجرد من القدرة الموهومة، التي تحجب عنها في ساعات الرضاء حقيقة فطرتها، وتقطع ما بين هذه الفطرة وخالقها. حتى إذا سقطت هذه الحوائل، وتعرت الفطرة من كل ستار، استقامت إلى ربها، واتجهت إلى بارئها، وأخلصت له الدين، ونفت كل شريك، ونبذت كل دخيل. ودعوا الله مخلصين له الدين. {فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد}.. لا يجرفه الأمن والرخاء إلى النسيان والاستهتار؛ إنما يظل ذاكراً شاكراً، وإن لم يوف حق الله في الذكر والشكر؛ فأقصى ما يبلغه ذاكر شاكر أن يكون مقتصداً في الأداء. ومنهم من يجحد وينكر آيات الله بمجرد زوال الخطر وعودة الرخاء: {وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور}.. والختار الشديد الغدر، والكفور الشديد الكفر؛ وهذه المبالغة الوصفية تليق هنا بمن يجحد آيات الله بعد هذه المشاهد الكونية، ومنطق الفطرة الخالص الواضح المبين. وبمناسبة هول البحر وخطره الذي يعري النفوس من غرور القوة والعلم والقدرة، ويسقط عنها هذه الحواجز الباطلة، ويقفها وجهاً لوجه أمام منطق الفطرة.. بمناسبة هذا الهول يذكرهم بالهول الأكبر، الذي يبدو هول البحر في ظله صغيراً هزيلاً. هول اليوم الذي يقطع أواصر الرحم والنسب، ويشغل الوالد عن الولد، ويحول بين المولود والوالد، وتقف كل نفس فيه وحيدة فريدة، مجردة من كل عون ومن كل سند، موحشة من كل قربى ومن كل وشيجة: {يا أيها الناس اتقوا ربكم، واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً. إن وعد الله حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور}.. إن الهول هنا هول نفسي، يقاس بمداه في المشاعر والقلوب. وما تنقطع أواصر القربى والدم؛ ووشائج الرحم والنسب بين الوالد ومن ولد، وبين المولود والوالد. وما يستقل كل بشأنه، فلا يجزى أحد عن أحد، ولا ينفع أحداً إلا عمله وكسبه. ما يكون هذا كله إلا لهول لا نظير له في مألوف الناس.. فالدعوة هنا إلى تقوى الله تجيء في موضعها الذي فيه تستجاب؛ وقضية الآخرة تعرض في ظلال هذا الهول الغامر فتسمع لها القلوب. {إن وعد الله حق}.. فلا يخلف ولا يتخلف؛ ولا مفر من مواجهة هذا الهول العصيب. ولا مفر من الحساب الدقيق والجزاء العادل، الذي لا يغني فيه والد عن ولد ولا مولود عن والد. {فلا تغرنكم الحياة الدنيا}.. وما فيها من متاع ولهو ومشغلة؛ فهي مهلة محدودة وهي ابتلاء واستحقاق للجزاء. {ولا يغرنكم بالله الغرور}.. من متاع يُلهي، أو شغل يُنسي، أو شيطان يوسوس في الصدور. والشياطين كثير. الغرور بالمال شيطان. والغرور بالعلم شيطان. والغرور بالعمر شيطان. والغرور بالقوة شيطان. والغرور بالسلطان شيطان. ودفعة الهوى شيطان. ونزوة الشهوة شيطان. وتقوى الله وتصور الآخرة هما العاصم من كل غرور! وفي ختام الجولة الرابعة وختام السورة، وفي ظل هذا المشهد المرهوب يجيء الإيقاع الأخير في السورة قوياً عميقاً مرهوباً، يصور علم الله الشامل وقصور الإنسان المحجوب عن الغيوب. ويقرر القضية التي تعالجها السورة بكل أجزائها، ويخرج هذا كله في مشهد من مشاهد التصوير القرآني العجيب. {إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت. إن الله عليم خبير}.. والله سبحانه قد جعل الساعة غيباً لا يعلمه سواه؛ ليبقى الناس على حذر دائم، وتوقع دائم، ومحاولة دائمة أن يقدموا لها، وهم لا يعلمون متى تأتي، فقد تأتيهم بغتة في أية لحظة، ولا مجال للتأجيل في اتخاذ الزاد. وكنز الرصيد. والله ينزل الغيث وفق حكمته، بالقدر الذي يريده؛ وقد يعرف الناس بالتجارب والمقاييس قرب نزوله؛ ولكنهم لا يقدرون على خلق الأسباب التي تنشئه. والنص يقرر أن الله هو الذي ينزل الغيث، لأنه سبحانه هو المنشئ للأسباب الكونية التي تكونه والتي تنظمه. فاختصاص الله في الغيث هو اختصاص القدرة. كما هو ظاهر من النص. وقد وهم الذين عدوه في الغيبيات المختصة بعلم الله. وإن كان علم الله وحده هو العلم في كل أمر وشأن. فهو وحده العلم الصحيح الكامل الشامل الدائم الذي لا يلحق به زيادة ولا نقصان. {ويعلم ما في الأرحام}.. اختصاص بالعلم كالاختصاص في أمر «الساعة» فهو سبحانه الذي يعلم وحده. علم يقين. ماذا في الأرحام في كل لحظة وفي كل طور. من فيض وغيض. ومن حمل حتى حين لا يكون للحمل حجم ولا جرم. ونوع هذا الحمل ذكراً أم أنثى، حين لا يملك أحد أن يعرف عن ذلك شيئاً في اللحظة الأولى لاتحاد الخلية والبويضة. وملامح الجنين وخواصه وحالته واستعداداته.. فكل أولئك مما يختص به علم الله تعالى. {وما تدري نفس ماذا تكسب غداً}.. ماذا تكسب من خير وشر، ومن نفع وضر، ومن يسر وعسر، ومن صحة ومرض، ومن طاعة ومعصية. فالكسب أعم من الربح المالي وما في معناه؛ وهو كل ما تصيبه النفس في الغداة. وهو غيب مغلق، عليه الأستار. والنفس الإنسانية تقف أمام سدف الغيب، لا تملك أن ترى شيئاً مما وراء الستار. وكذلك: {وما تدري نفس بأي أرض تموت} فذلك أمر وراء الستر المسبل السميك الذي لا تنفذ منه الأسماع والأبصار. وإن النفس البشرية لتقف أمام هذه الأستار عاجزة خاشعة، تدرك بالمواجهة حقيقة علمها المحدود، وعجزها الواضح، ويتساقط عنها غرور العلم والمعرفة المدعاة. وتعرف أمام ستر الغيب المسدل أن الناس لم يؤتوا من العلم إلا قليلاً؛ وأن وراء الستر الكثير مما لم يعلمه الناس. ولو علموا كل شيء آخر فسيظلون واقفين أمام ذلك الستر لا يدرون ماذا يكون غداً! بل ماذا يكون اللحظة التالية. وعندئذ تطامن النفس البشرية من كبريائها وتخشع لله. والسياق القرآني يعرض هذه المؤثرات العميقة التأثير في القلب البشري في رقعة فسيحة هائلة.. رقعة فسيحة في الزمان والمكان، وفي الحاضر الواقع، والمستقبل المنظور، والغيب السحيق. وفي خواطر النفس، ووثبات الخيال: ما بين الساعة البعيدة المدى، والغيث البعيد المصدر، وما في الأرحام الخافي عن العيان. والكسب في الغد، وهو قريب في الزمان ومغيب في المجهول.. وموضع الموت والدفن، وهو مبعد في الظنون.
|